[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائي السوري ابراهيم الجبين
في إجابتي عن تساؤلكم: هل تكون الكتابةُ في الحيزِ الضيقِ، حيزِ المواجهةْ، طوق نجاة في مواجهة هذا الخراب العميم؟ أرى أن الأمر يتوقف هنا، على ما أراده الكاتب أصلًا من هذا الحقل أو ذاك من آفاق الكتابة. بعض الكتاب اختاروا أن تكون الكتابة مغتسلًا من كل ما يعلق بالنفس العميقة، وبعضهم يصنع صناعة عوالمه اللغوية، التي لا ينجو من دونها. يبني من حولها مدنًا وأريافًا خاصة به. حتى إذا ما فني الواقع الحقيقي وتم تدميره، كانت عوالم الكاتب عامرة صامدة. وفي مواجهة الخراب القائم في بلادنا، لا يمكن للكاتب إلا أن يفعل هذا كله معًا. بالنسبة إلي، تهيبت من اللحظة الأولى أن أكون فوتوغرافيًا ينقل الواقع الجديد في سوريا. أو حتى يواكبه بالنص. فأي نص يمكن أن يصف النهوض الجماعي الكبير، والانهيار الجماعي الكبير أيضًا؟ أي نص يمكن له أن يكون أكثر إيلامًا من الصورة أو أكثر جمالًا من شهقة الحرية؟ ومع الوقت أخذت أبحث عن لغة أخرى، وثالثة، ورابعة. تكون عند مستوى اللحظة.
أما عن أهميةُ الكتابةِ في اللحظةِ الراهنةْ وماهيةُ لغتِها؟. فأقول إن لغة اللحظة ليست لغة الخراب. بل لنتخيل لو أننا عبرنا السنوات الخمس الماضية، دون هذا الخراب، هل كان العالم سيكون كما كان في العام 2011؟ بالتأكيد لا.
الانفجار الكبير في تكنولوجيا التواصل ومتغيرات العلاقات الإنسانية وكذلك تحول اللغة من عالم الصائغ إلى مختبرات العلوم. تسيّد الصورة على كل التمثيلات. ليس هذا فقط. بل تدفق المجالات الأخرى على فضاء الكاتب ومادته التي ينتجها. وكذلك متغيرات المتلقي، الذي لم يعد مجرد مستقبل سهل القياد. بل صار مشاركًا حقيقيًا أو على الأقل يشعر أن له الحق في مشاركتك ما تكتب، وله الحصة حتى في جزء من رأيك وتصوراتك عن العالم. كل هذا حدث. وهو ليس أقل تأثيرًا من خراب أصاب سوريا التي نعرفها.
وأجيب من يسأل من الكتّاب والنقاد: "كيف يبني الكاتب عمارة روائية والطغاة يدمّرون في البلد كل ساعة بالبراميل المتفجرة أو بالرايات السوداء عمرانًا أو تاريخًا أو أجسادًا أو أرواحًا؟. بالقول: دعنا لا نقيس الدمار بالعمار. وإن كان تخيل ما يحدث في وعي الكاتب هامًا جدًا. فالبدييهي أن يكون العمل الروائي مرآة للواقع، كما قيل. لكن هذا البديهي لم يعد بديهيًا. إذا بات من المشروع أن تقول اليوم (بعد سنوات طويلة من العمل المبذول من قبل الكتّاب والمبدعين السوريين، منذ مطلع التسعينات، وبعد انهيار جدار برلين والمنظومة الاشتراكية، وكذلك حرب الخليج) أن الإبداع ليس مجرد صدى لما يحدث في الواقع.
وأنه خلقٌ جديد وحده. كان هذا جدالنا الدائم، سواء في حقل الإعلام أو الأدب، وكانت المدارس الراسخة، تقول إن الإعلام المحترف هو ناقل للواقع. وكنا نقول إنه صانع للواقع. وكذلك الأدب، بوسعه أن يشد الواقع لا أن يلحق به وحسب.
عمارة الحكايات، تتطور بقدر ما يتطور وعي الكاتب بالحكايات. والسرد ليس مجرد حكي. بل هو مرانٌ مستمر على الخيال الحر. هنا تبرز اختبارات حادة لديمقراطية الكاتب أو ميله للاستبداد. الشكل الهندسي المتزمت؛ استبداد. والشكل المتفجر المنفلت؛ فوضى. وما بين الاستبداد والفوضى تتشكل آلاف الهياكل من النظم الذهنية الإبداعية التي تصنع الحكايات.
إن الرواية السورية حياة سورية موازية. ومن ألفة الإدلبي إلى حنا مينة وخيري الذهبي إلى سليم بركات، إلى من يكتبون اليوم، ستجد أن الرواية لم تكن أقل وحشية من الواقع المتوحش الذي ظهر مع الربيع العربي. يمكنك أن تلاحظ أبطال تلك الروايات، وتقارنهم بأبطال روايات الشباب اليوم. الإنسان المدمّر كان موجودًا ولم يزل. فقط تغيرت العدسات التي تصوّره والمخيال الذي يقودك إليه وأنت تقرأ. لن ترتقي الرواية (إن جاز لنا القول أنه ارتقاء، لا انحدار شديد) إلى التخريب الكبير الذي طرأ على أعماق الأبطال. وهنا المشكلة، فكلما كنت واقعيًا أكثر في وصف سيكولوجيا أبطالك، كلما كنت مصوّرًا، ستتفوق عليك وسائل الإعلام التي لا عد لها ولا حصر. ومعها الأفلام الوثائقية والتقارير وملفات اليوتيوب. وكلما كنت غرائبيًا أكثر، كنتَ في سباق مع العقل الذي أصبح يمارس هذه اللعبة يوميًا؛ توقّع الغرابة.
وأما جوابي عن سؤالكم: "هل أزال الحدث الثوري غشاوة القمع والمنع، وتمكن الكاتب من إخراج الشرطي من رأسه، منطلقًا نحو لغة حرة؟". فأشير إلى أن هذا تحدٍ من نوع آخر. فالمفارقة الساخرة، أن تراقب كيف تتغير النصوص ما بين عهدين، عهد الرقيب، وعهد ما بعد الرقيب، حتى لا نقول عهد حر، وهو لم يتشكّل بعد.
وكان السؤال لحظة اندلاع الربيع العربي؛ ترى كيف سيكتب الكتاب الذين كانوا يشكون من سطوة الرقابة وتكميم الأفواه؟ وهو ذاته الذي انطبق في ما بعد على السياسيين والمثقفين عمومًا، فهاهي الفرصة سانحة كي نشاهد أداءك بعيدًا عن المعتقل، وبعيدًا عن الرقيب. فلماذا لا نرى تغيرًا يذكر؟
الحقيقة أنه اعتياد الضحية على الجلاد، وألفة المحبوس مع جدران الحبس. وهو ما تجلى واضحًا حين سمعنا تأوهات كثيرة وندبًا وشكوى حين دمّر تنظيم داعش الإرهابي سجن تدمر. فعلت أصوات السجناء السابقين؛ إنهم لا يتخيلون سوريا من دون سجن تدمر.
الروائي أيضًا يجد نفسه يتيمًا من دون الرقيب - الأب. بل إنه في أحيان كثيرة يصنعه ويضعه أمامه على الطاولة كي يتمكن من الكتابة. الكتابة بلا رقيب مسؤولية أكبر. لأنك هنا لا تستعرض عضلات المحرمات، بل ستجد نفسك في مسرح الجديد. ماذا لديك غير مناوشة المحرمات؟ هل لديك بضاعة تثير أكثر من الحديث عن السياسة والجنس والدين؟ أم أنك ستواصل الكتابة كما لو أنك تكتب وتسلّم نصّك لرقابة وزارة الإعلام السورية أو اتحاد الكتاب العرب بدمشق؟
لا أرى أن هذا حدث. فلم يتغير شيء عند الروائيين السوريين. حتى أن بعضهم يصرّ على وضع نفسه تحت خطر الاعتقال والتعذيب، حتى يضيف ذلك النيشان إلى نياشينه. ولا أعرف كيف يمكن لكتابة أن تكون حرة وهي على مقربة سنتمترات من الخطر. إلا إن كانت تعيش واحدة من حالتين؛ تحتاج ذلك الخطر لأنه بضاعتها الوحيدة، أو أنها توظّف نفسها لخدمة الخطر ذاته، وتبييض صفحته. فهو يسمح اليوم بكتابة روايات حرة، أي أنه بات ديمقراطيًا الآن بعد أن دمّر سوريا وشرّد شعبها.
وردًا عمن يرى أن "الأدب الجيد لا يكتب في الأوقات الصعبة، لا يكتب في أتون الحروب وأزمنة المأساة، ولكن بعد أن تخمد الحرائق وتنقشع الغيوم السود، وأن جُلّ الأدب الذي يكتب في تلك الأزمنة إنما مصيره الهلاك مع من هلك من البشر، وفي ذلك ظلم للتجربة الإنسانية ومغامرتها الأدبية". فأقول: ومتى كانت الأوقات في حياة الكاتب غير صعبة؟ أو سلسة يسيرة؟ ومتى لم يكن في حرب؟ حربه الشخصية مع الخلق والإبداع. أو حرب مجتمعه مع الموت البطيء، أو حرب مدمرة فعلية لا تبقي ولا تذر. لكن السؤال يتضمن ما هو أعمق من الحديث عن زمنين. وأظن أن المقصود هو التفكير في قمية ما يكتب في أزمنة الشحن العاطفي والهيجان الشعوري. وهذا ملف كبير وهام. وهل ما تنتجه البشرية من بين الدخان وانهمار القذائف ومطر الموت، يتجاوز حدود "الوثيقة التاريخية"؟ أم أن له قيمة فنية مختلفة يمكن رصدها بعد أن تضع الحرب أوزارها؟ وماذا تركت لدينا من أثر نصوص أدباء الغرب أثناء الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال؟ لا شك أن الرواية الريبورتاج التي أميل إليها، يمكن أن تجيب على هذا السؤال ببراعة. لكن ماذا عن الأنماط الأخرى؟ ماذا عمّن اختار الكتابة الرائقة البعيدة عما يجري؟ وماذا عن الذين قرروا الكتابة من أجل لحظة آتية؟
*************
إبراهيم الجبين في سطور:
شاعر وروائي وإعلامي سوري، من مواليد دمشق 1971، ويقيم حاليًا في مدينة دورتموند/ ألمانيا، ويعمل محررًا في صحيفة "العرب" اللندنية. ويشغل مدير تحرير مجلة "دمشق" (المجلة الفكرية الثقافية السورية الصادرة في لندن) 2012.
ينشر الجبين مقالاته في الصحف العربية منذ أواسط الثمانينات.
حصل على البكالوريوس في الإعلام المرئي والطرائق البصرية Visual Media ـ American world university ـ ولاية كولومبيا الولايات المتحدة الأميركية 2006. وأحد الحائزين على شهادة "صنع وقيادة العمل الإعلامي" من وزارة الخارجية الأميركية 2006.
شارك في إعداد وتقديم برامج حوارية، منها البرنامج الحواري "الطريق إلى دمشق"، قناة اورينت 2012ـ كما شارك في إعداد عدة أفلام وثائقية منها "أبو القعقاع السوري"، قناة الجزيرة 2015. والفيلم الوثائقي "أسامة بن لادن في سوريا" من إخراج المخرج السوري نبيل المالح. مدته ساعتان وعشر دقائق ، 2001 . وقد كان الفيلم هو أول إذاعة لمعلومات تتحدث عن أقارب لابن لادن من سوريا ـ والدته وزوجته ـ وعن سنوات طفولة قضاها في كنف أخواله ـ اقتطعت من الفيلم مشاهد ودقائق معدودة لصالح المخرج الفرنسي جيويل سوليه في سان فرانسيسكو في مشروعه شخصيات من العالم الثالث 2001.
صدر له:
- "يوميات يهودي من دمشق"، (رواية)، دار خطوات، دمشق 2007. منعت من التوزيع في سوريا، وأدخلت ضمن مراجع البحث والمناهج في قسم (الشرق أوسطيات) في جامعة لايبزيغ في ألمانيا.
- "الطريق إلى الجمهورية"، توثيق وتحليل، من سنة 1800 - 1952 (الجزء الأول)، في التأريخ السياسي للشرق الأوسط، ـ دار الأعلام ومركز القرار للدراسات في الإمارات العربية المتحدة، بيروت 2012 .
- "تنفّس هواءها عني"، (نصوص شعرية)، دار الشرق للكتب والنشر، دمشق 2010.
- "البراري"، (نصوص شعرية)، الطبعة العربية الثانية، دار التكوين، دمشق 2007.
- "يعبر اليم"، (نصوص شعرية)، دار الطليعة، دمشق 2004.
- "لغة محمد"، (دراسة في تفكيك لغة وألفاظ النبي محمد وتوثيق الأسانيد)، الشركة العربية الأوروبية، كوبنهاغن 2003.
وآخر مؤلفاته: كتاب "قيامة المشرق العربي"، قراءة في تحويلات الخرائط الاستراتيجية والصراعات في المشرق العربي ومصائر الشعوب في زمن الربيع العربي ، دار ومكتبة توتيل، اسطنبول 2016.